الأخبار

محمد الجالوس.. الذاكرة الجمعيّة تؤثّث فضاء اللوحة
محمد الجالوس.. الذاكرة الجمعيّة تؤثّث فضاء اللوحة

عمّان في 26 ديسمبر /العُمانية/ في كل لوحة من لوحات التشكيلي محمد الجالوس ثمة بوصلة واضحة الاتجاهات، تنطلق من الذات وعوالمها وتشير إلى البيئة الحاضنة والدائرة الواسعة التي شكلت ذاكرة الفنان وموقفه مما حوله ورؤيته للحياة عمومًا.

ويعبّر الجالوس الذي نال أخيرا جائزة فلسطين للفنون تقديرًا لمعارضه الثلاثة الأخيرة (2019-2022) من خلال انعكاس الذات على أسطح أعماله عن ذاتٍ جمعية لا ينفصل عنها بأيّ حال، داحضًا في ذلك مقولة "الفن للفن"، ومؤكدًا على أن الالتزامَ سمةُ الفنان الحقيقي، فلا مناص - مهما أنكرنا ذلك - من تأثر المبدع بالأحداث المحيطة واشتباكه معها على الصعد كافة؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية وسواها.

لذلك، حين يرسم الجالوس، الذي اختيرت جدارية له في مسابقة "مشروع طريق الحرير" وعُرضت بالمتحف الوطني الصيني (2020)، فإنه يعكس ما في داخله على لوحاته، وكأن أعماقه بئرٌ تفيض بالتجارب التي لا تنفصل بحالٍ عن السياق الذي يعيش به الفنان، وحين تفيض هذه البئر فإن محتواها الثريّ هو ما يشكّل قوامَ اللوحة ومضمونها.

وبهذا، فإن قراءة أعمال الجالوس الذي وُلد في عمّان عام 1960 لعائلة تنتمي إلى قرية قزازة في قضاء الرملة الفلسطيني، عانت التهجيرَ بعد حرب النكبة أسوةً بآلاف العائلات الأخرى، تؤكد على أنه وفيّ لقضيته التي تمثل اختبارًا متجدّدًا للضمير العالمي، فضم معرضه "أبواب 48" (2019) –على سبيل المثال- أبرز الأعمال التي تجسد هذا الانتماء، وقد أنجزها الفنان عبر سنوات طويلة من العمل والبحث مستعيدًا أبواب البيوت الفلسطينية التي أُجبر أهلها على مغادرتها تحت وطأة الاحتلال.

وفي ذلك المعرض المفصليّ، جاءت التشكيلات الفنية على أسطح اللوحات بأبعاد رمزية ومجازية، ليؤكد الفنان من خلالها على حقّ أصحاب هذه البيوت بالعودة، وتمسُّكهم بحقّهم المقدّس، لهذا يحتفظ الفلسطينيّ المهجَّر بمفتاح بيته مهما حلّ وارتحل، في إشارةٍ صريحة إلى أنه سيعود إليه مهما طال الزمن.

وفي أعمال الجالوس التي عرضها ضمن معرضٍ آخر حمل اسم "مقامات جسد" (2016)، حضرت ثيمة الجسد الإنساني بقوة، وهو ما يمثل استمرارًا لمعارض أخرى سابقة له، من بينها "تقاسيم على الجسد" (1999) الذي اشتمل على رسومات مستوحاة من جسد المرأة، بأسلوب رمزي تجريدي، ضمن مغامرة لونية قوية بحث الفنان فيها عن مواطن السحر والجمال كما مواطن المعاناة والألم.

وتكشف لوحات الجالوس الذي درس الفن في معهد الفنون الجميلة بعمّان عام 1979، عن أسلوبه في التكثيف اللوني، حيث تتراكم الألوان فوق سطح اللوحة في طبقات، ومن خلال هذا التراكم، كما نجد في معرض "مقامات جسد"، تطل وجوه لا ملامح دقيقة لها، وُضع كلُّ وجه منها داخل إطار مربّع تعبيرًا عن العلاقة بين الماضي والحاضر، فبدتْ هذه الوجوه مستلَّة من ذاكرة الفنان وما اختُزن فيها؛ وهي تتشابه تارة وتختلف عن بعضها بعضًا تارة أخرى، وتتسم بوضوح الملامح أحيانًا وبالضبابية بفعل الزمن أحيانًا أخرى، وتشترك بألوانها الباهتة والباردة وبالتشكيلات التي تنتمي إلى الفن التجريدي أكثر من سواه.

أما في معرض "ذاكرة" (2013)، فارتأى الجالوس الذي ترأسَ رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين (2003-2004) تقديمَ لوحات جدارية تبتعد عن مفاهيم الجسد والوجوه والأطر، لتحتفي بالتجريب، دافعةً الفنان لاكتشاف مناطق وعوالم جديدة عبر تقنيات وأساليب تمزج بين التجريد والواقعية والتشخيص، معتمدًا التداخلَ اللوني المنسجم مع تداخل الأشكال التي تظهر عبر السطح ذي الملمس البارز والغائر، بينما تتوزع الكتل اللونية عبر مربعات صغيرة تعدّ وحدةَ التصميم الأساسية للعمل، وأحيانًا تختفي هذه المربعات ليُستعاض عنها بالألوان ذات الملمس النافر.

وتنقّل الجالوس الذي يمارس الكتابة الأدبية أيضًا، من تجربة فنية إلى أخرى، وظلّ في كل ما قدمه يستهدي برؤاه وأحاسيسه، وينهل من ذاكرته ما أمكن، حيث الحذف والإضافة والواقع والمتخيل والاقتراب والابتعاد، كل ذلك عبر طاقة تعبيرية لونية تنأى عن التفسير والتأويل المباشر وتحرص على تشكيل حالة بصرية مثيرة للوجدان والمشاعر الإنسانية.

وليس من باب الصدفة أن تتفاعل عناصر الإبداع المختلفة لتؤثّث أسطح لوحات الجالوس الذي عُرف عنه إلى جانب كتابة القصة والنقد في بداياته، سعة الاطلاع على ما يستجد على الساحتين الأدبية والفنية، وهو ما عززته إقامته في الولايات المتحدة الأمريكية التي وفرت له فرصة التعرف من قرب على تحولات الفن العالمي ومقتنيات المتاحف ومعروضات صالات الفنون.

وفي معرضه "ثلاثون عامًا في الرسم" الذي تزامن مع صدور كتاب له بالعنوان نفسه صدر عام 2010، عرض، خمسين لوحة تضيء أبرز المحطات في تجربته، مؤشرًا على رحلته مع اللون التي بدأت منذ الصغر حين شُغِف بتكوين الأشكال واكتشاف جماليات صُنْعها من أدوات بسيطة، وصُقلت حين وجد أنه قادر على محاورة الألوان بصريًّا واختيار توليفة تربطها معًا، ونضجتْ حين بدأ يُثري اللوحة بالتقسيمات والمربعات والأشكال والخطوط التي تعكس رحلة البحث عن اليقين الداخلي ومواصلة الشك للوصول إليه.

/العُمانية/النشرة الثقافية/عمر الخروصي