عمّان، في 20 مارس/العُمانية/تتسم أعمال التشكيلي الأردني حفيظ قسيس بالقوة والتناغم، إذ يشتغل الفنان على التشكيلات الهندسية التي يجمع في أطُرها تناقضات الإنسان وهواجسه وعذاباته، وقد تمكّن بالاتكاء على الخط الذي يميل نحو الشكل الهندسي، من نسْج شبكة معقّدة ومتداخلة من الأشكال والألوان التي جاءت في غالبيتها حارّة وقوية ومندفعة، كما لو أنّ للّوحة طاقةً قويّة ستمكّنها من الصراخ محتجّةً على واقع الإنسان المعاصر الذي يعاني الحصار والفردانية والفوضى والخوف والتعب من أعباء الحياة المختلفة.
وما يميز أعمال الفنان قسيس الحاصل على شهادةالماجستير في الرسم والتصوير عام 1972، هي تلك الضربات السريعة والعريضة التي تعكس على سطح اللوحة كميةً كبيرة من التوتر الداخلي، مع عدم إغفال التفاصيل المتشابكة والخطوط المتعرجة التي تشبه إلى حد كبير سردية لونية أو رواية تُكتب باللون لتعبّر عن مشهد مجتزأ من الحياة وحكاية تسعى للاكتمال.
ويعكس هذا الاشتغال اللوني فهمَ الفنان لقدرة اللون والخط والشكل على ترجمة المشاعر الداخلية للإنسان ولمس الأبعاد الروحانية لديه، فتلك الخطوط الرفيعة والغليظة تنتثر على السطح ضمن بعدَين، أولهما يتمثل في الرؤية السطحية للشكل واللون، والثاني يتمثل في العمق الذي تقود اليه هذه التشكيلات؛ إذ بقدر ما تبدو صامتة وثابتة تبدو حيوية ومتحركة بفعل تلك الدوائر والخطوط الملتفّة والمسطّحات المتداخلة بغية تحقيق تباين بين السطوح ذات الألوان المبهجة والحارّة وبين ما يجاورها من ألوان معتمة وقاتمة.
الفن لدى قسيس كان حرفةً ومهنةً في الوقت نفسه، حيث تولى إدارة معهد الموسيقى والفنون الجميلة التابع لوزارة الثقافة الأردنية، وكان هذا المعهد أولَ هيئة تعنى بتدريس الفنون أكاديميًّا بالأردن، إذ لم تكن قد ظهرت آنذاك جامعات أو معاهد تدرّس الفنون التشكيلية، كما اعتمد المعهد على الموهبة بصرف النظر عن عمر صاحبها وكان يُشترط للتخرج منه إتمام ثلاث سنوات دراسية.
لقد آمن قسيس بأن الموهبة وحدها لا تكفي؛ فلا بد من التدريب والمهارة والمعرفة بقواعد الفن التشكيلي ومبادئه وأسسه التي يقوم عليها بناء العمل الفني. وقد أسّس الفنان لأسلوبه الخاص بالرسم؛ حيث التناغمات والتنويعات والأشكال والخطوط القاتمة التي تحدد الشكل العام معتمدًا على درجات الأزرق والأحمر والبرتقالي، ويلاحَظ ذلك في لوحته التي أطلق عليها "زمن الانحطاط"، وهي تصوّر فوهة مدفع مسدَّدة نحو فم الحصان الذي يرمز للنبل والكرامة والعزة، لكن صهيله يعلو رغم كل شيء، وأسفل المشهد يبرز كرسيّ مكسَّر يشير إلى السلطة التي سيكون مصيرها التقويض عندما تكون وبالًا على الشعوب.
ويقول الفنان إنّ هذه اللوحة تمثل بشكل عام ما يريد إيصاله بالفن، وتجسد إيمانه بأن الفنان مرآة مجتمعه، متمسكًا بفكرة أن الفن تعبير إنساني جمالي يخاطب الوجدان والعقل، وما دام كذلك فالنتيجة ستصبّ لصالح الإنسانية بعامة.
وواصل الفنان قسيس عبر تجربته الممتدة لعقود، البحث والتجريب في إطار التجريد التعبيري، إذ يناقش قضايا وموضوعات يتم طرحها ضمن أبعاد تشكيلية، وينبثق المعنى من الأشكال البصرية وإيقاعات الخطوط الرقيقة والغليظة، ليقترب الفنان بذلك من المدرسة التجريدية التعبيرية، حيث تشع من بين خطوطه تدرجات من الظل والضوء تمنح السطح مستويات متعددة من التعبير والدلالة، وبهذا تصبح اللوحة نوعًا من التأمل والإنصات إلى صخب التحولات الذاتية، التي تعكس صخب المجتمع وتحولاته.
إلى جانب ذلك استلهم قسيس الرموز المعروفة للتعبير عن ما يشغله من قضايا وموضوعات، من مثل استلهامه رمز المرأة التي تعبر في لوحاته عن المقاومة والتحرر، ورمز الحصان الذي يعبر عن التوق إلى استعادة أمجاد من الماضي ومعان تتعلق بالفروسية والشجاعة، والكرسي والبارود..
وقد اتضحت الرموز بشكل كبير في تلك اللوحات التي عبر فيها الفنان عن ما تعاني منه فلسطين من احتلال، مستعيدًا مدينة القدس عبر مآذنها التي تحتل واجهة اللوحة مع خلفيات بالأحمر والأزرق والأصفر ورموز هنا وهناك تدل على ما تعانيه المدينة من ظلم الاحتلال وقهره.
وتتوسع اهتمامات التشكيلي حفيظ قسيس لتشمل عمله في ترميم الكنائس، وبخاصة الجداريات الفسيفسائية وهو الذي شغل منصب مدير لمدرسة الفسيفساء في مدينة مادبا الأردنية الشهيرة بهذا النوع من الفنون، وقد رمم "كاتدرائية المخلص" في القدس بعد تعرضها لتلف كبير في أرضياتها ومكوناتها من الفريسكو الجداري، التي تشتمل على الكثير من الزخارف والديكورات والأيقونات والزجاج المعشق والأعمال النحتية.
كما عمل على ترميم الأرضيات الفسيفسائية وقباب وسقف الكنيسة الجسمانية بالقدس، وكنائس مراحل درب الآلام، وفسيفساء كنيسة القيامة، وترميم وصيانة الزجاج المعشق لكنيسة المهد بالقدس.
ويرى الفنان أن الفسيفساء نوع خاص من الفنون يلزمه دراسة وإلمام بتقنيات الفسيفساء، فهناك فسيفساء حجري وفسيفساء زجاجي ميزته أنه يعطي درجات كثيرة من الألوان وغنى اكثر للتشكيل مع التلاعب بالظل والنور والأشكال، وفي لوحاته تلك يعتمد على تقنية الرسم عبر "الاسكتش" بالبداية ثم تلوين الاسكتش بألوان مائية ثم يقوم بتكبير الرسم على قطعة قماش بالحجم الطبيعي ليبدأ بعدها عمليه قص وتثبيت الحجارة الملونة بالصمغ حسب متطلب الاسكتش الأساسي.
وجاءت لوحات قسيس في فن الفسيفساء لتعكس التشكيلات الهندسية بوضوح أكبر، كما قاربت فيما استوحته من أشكال اللوحات الأثرية لهذا الفن واعتماده على الألوان المبهجة والرموز الإنسانية والحيوانية والنباتية.. مع صياغة عصرية لتلك الأشكال عبر تقنيات التقطيع وفصل الأشكال أو تداخلها عبر الخطوط والدوائر.
/العُمانية/النشرة الثقافية /طلال المعمري