الأخبار

الروايةُ الجزائريّة.. تنوّع الأمكنةُ والمشتركُ جماليٌّ !
الروايةُ الجزائريّة.. تنوّع الأمكنةُ والمشتركُ جماليٌّ !

الجزائر في 24 يوليو/ العمانية/ تحفلُ الرواية الجزائرية بالأمكنة ودلالاتها، إلى درجة أنّ بعض الروائيّين اختارُوا أن تحمل عناوين أعمالهم اسم مكان، مثلما فعل الروائيُّ محمد ساري في (نيران وادي عيزر)، ووليد بلكبير (زنقة الطليان)، وأحمد طيباوي (باب الواد)، والطيب صياد (متاهة قرطبة)، وحنان بوخلالة (سوسطارة).

ومن "ذاكرة الجسد" (أحلام مستغانمي)، التي تدور أحداثُها في مدينة قسنطينة (شرق الجزائر)، إلى "هوارية" (إنعام بيوض)، وتدور وقائعُها في مدينة وهران (غرب الجزائر)، تختلفُ الأماكن، والهدفُ واحد، وهو تأثيثُ المتن الروائيّ بفضاءات مكانيّة تسافرُ بالقارئ، ويختارُها الروائيُّ بعناية لأهداف جماليّة وتاريخيّة بالأساس.

لكن لماذا يختارُ هذا السّاردُ مكانًا دون غيره؟ وما دلالاتُ الأمكنة في الرواية الجزائرية؟ هنا يؤكّد الروائيُّ الطيب صياد، لوكالة الأنباء العمانية، بالقول "منذ نشأة الرواية الجزائرية تقريبًا، سواء تلك التي كانت تكتب باللُّغة الفرنسية؛ بحكم هيمنة ثقافة الاحتلال الفرنسي أو بحكم التوجُّه الذي ينطبع به الكاتب، أو الرواية العربيّة التي اتّخذ أصحابُها قرار الاستقلال الثقافي؛ المشترك الأكبر هو أنّ المكان، في أغلب تلك النصوص، كان جزائريًّا خالصًا؛ فكاتب ياسين، والطاهر وطار، ومرزاق بقطاش، وعبد الحميد بن هدوڨة، ثم في عصرنا هذا، يتجلّى جيلٌ مختلفٌ تماما من حيث العقلية والنشأة والأهداف، وحتى من حيث المواقف السياسية؛ أجد أنّ القرى والمدن الجزائرية تكتسحُ روايات هؤلاء، كبارا وصغارا، بصرف النظر عن الأزمنة التي كتبوا فيها، والأزمنة التي كتبوا لها (روايات تاريخية مثل جمال سويدي في "أمستان الصنهاجي"، أو روايات ثورية أو روايات معاصرة...)، وكذلك بعد بروز أدب الصّحراء، كما يسمّيه بعضهم؛ مثلما كتب زيواني (مينا)، وبن زخروفة (هجرة النار) وغيرهما؛ فالصّحراء التي كتب عنها الروائيُّ الجزائريُّ هي صحراء الجزائر، وهو ارتباطٌ ليس مُستغربًا، في رأيي، بل هو من ضمن شخصية الإنسان الجزائري الذي يرى بلده، لحدّ الآن، تنضحُ بدماء من استشهد لأجلها طيلة أكثر من 130 سنة من الكفاح ضد فرنسا، لكنّ هذا لم يكن حاجزا عن الكتابة لأماكن أخرى خارج الجزائر، إذا أخذنا أمثلة ياسمينة خضرا أو ماسينيسا تيبلالي مثلا؛ فقد كتبا عدّة نصوص بعيدا عن الجزائر؛ تيبلالي كتب عن مصر والعراق ببراعة، وهي تجارب قوية ومُحكمة فعلا، سواء تلك التي استطاع أصحابُها أن يتنقّلوا لمكان الرواية أو اكتفوا بالتعرُّف على المكان من خلال استكشافه بدقة عبر الإنترنت والوثائق".

ويضيف صياد "أنا كتبتُ أربع روايات (العثمانية، متاهة قرطبة، بيت آسيا قُرمُزلي - كلُّها منشورة، صورة الأنبياء: غير منشورة)؛ في النصّ الأول تجوّلتُ بالقارئ بين الجزائر وتركيا وسوريا، بينما اكتفيتُ، في النصّين الثاني والثالث، بحصر الأحداث تقريبا في مدينة الجزائر العاصمة".

أمّا الروائيّ محمد الفاتح حرامي، فيقول " شهدت الرواية في الجزائر تطوُّرًا ملحوظا، سواء في الأسلوب أو في التقنيات أو المواضيع المتناولة، وكان السياقُ السياسيُّ والاجتماعيُّ، عاملا مُهمًّا في صوغ وبلورة توجُّهات الروائيّين بشكل كبير. غير أنّه، إلى غاية تسعينيات القرن العشرين، ظلّ التأثيثُ المكانيُّ ضعيفا، لا يُرى بوضوح في النصّ، وكان المكانُ، كمسرح للأحداث، مُبهمًا، نمطيًّا، وكأنّ كُتّاب الستينيات والسبعينيات إجمالا، لم يُقدّرُوا أهميّة خلق الحافز البصريّ والارتباط الحميميّ بين القارئ والمكان".

ويؤكّد حرامي بالقول "ربّما كان السببُ في ذلك، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، هو محاولة الأدباء الابتعاد عن التصريح والتشخيص خوفا من الارتدادات التي يمكن أن يُحدثها النصُّ، بحسب الحالة. كما أنّ أدباء تلك الحقبة كانوا يضعون القارئ أمام الحدث مباشرة، ولذلك ظلّ المكانُ، في غالبية تلك التجارب، نمطيًّا، مُبهم المعالم، وقلّما تمّت الإشارة إلى اسم مدينة بعينها".

ويُضيف بالقول "اعتبارا من التسعينيات، بالتزامن مع التعدُّدية والأزمة السياسية، والتحوُّل الاقتصادي، أصبحت التجاربُ الروائيّة أكثر ذاتية، تتّخذ من علاقة الإنسان بذاته وبمحيطه موضوعًا لها؛ لذلك، بدأ التأثيثُ المكانيُّ يتّخذ أهميّة أكبر، باعتبار تطوُّر الوعي المكانيّ البصريّ للكاتب، وباعتبار ذاتية التجربة في علاقة الإنسان بالمكان".

من جهة أخرى، يرى محمد الفاتح حرامي أنّ "ملامح التأثيث المكانيّ لم تتّضح بقوة إلا في الخمس سنوات الأخيرة، بعد نجاح رواية "الديوان الإسبرطي" في افتكاك جائزة البوكر، وجنوح الكثير من الكُتّاب إلى الرواية التاريخية التي تتطلّبُ تفاصيل مكانيّة يُمكن أن نسمّيها بالوثائقيّة".

وتعتقدُ الباحثة والناقدة، د. فلة شوط، أنّ الرواية العربيّة الجزائرية المعاصرة أيقنت، اليوم، انفتاحًا ثقافيًّا وجماليًّا على مختلف التّقنيات السّرديّة؛ من زمان ومكان وشخصيات، حيثُ إنّها تُمثل جوهر العمل الأدبيّ والنقديّ على الخصوص.

وتؤكّد د. شوط، لوكالة الأنباء العمانية، بالقول "إذا تمعنّا في أهميّة المكان في الخطاب الروائيّ، نجدُ أنّ أغلب الكُتّاب الجزائريّين يجتهدون، كلّ الاجتهاد، في تحصيل هذا المكوّن النقديّ، ومحاولة الاشتغال عليه سرديًّا، وإذا عُدنا لإحصاء الروايات الجزائرية، نجد أنّها تولي كلّ الاهتمام لتقنية المكان، منذ الثورة التحريرية والعشرية الدموية، مُرورًا إلى الأوضاع الحالية".

وتضيفُ "إنّ المكان الروائيّ هو تحصيلٌ فنيٌّ جماليٌّ، مثلما يؤكد عليه غاستون باشلار (1884/1962)، في كتابه "جماليات المكان" الذي يؤصّل للتأثيث المكانيّ لدى الروائيّ وعلاقته بالواقع والبيئة معا".

وتؤكّد بالقول "يسعى الكاتبُ الجزائريُّ اليوم في كتاباته السّردية إلى الخروج عن المألوف والتقليدي، ومحاولة تجريب تقنيات جديدة، تجعل عمله يرقى لمستوى العالميّة من خلال الطرح الجادّ، والتحليل المعمّق؛ لأنّ المكان الفنيّ في تطوُّر ملحوظ؛ إذ أصبح يتناولُ مواضيع الحياة اليوميّة، في قالب سرديّ خاصّ، توحي بضرورة التحوُّل النقديّ الذي جعل من الشخصيات مكانا في حدّ ذاته، لأنّ هذه الأخيرة (الشخصية)، أصبحت تُمثّل المكان وتصفُه، ولعلّ هذا التجريب الروائيّ في الكتابة، مكّن الرواية الجزائرية من بلوغ مصافّ الفرد والمجتمع معا".

وتخلصُ د. فلّة شوط إلى التأكيد بالقول "اعتمدت الرواية الجزائرية اليوم على نقلة نوعيّة مميّزة تعكسُ حفاوة الشخصيّة بالمكان الذي يصفها ويطرحها أمام العلن في معيار ثقافيّ دقيق وفق مرجعيات سردية تتمثّل في السياسة والمجتمع والاقتصاد، وكذا مرجعية الذاكرة التي لديها عاملٌ قويٌّ ومؤسّس في تأصيل ذكرى المكان الفنيّ، وعلاقته بالشخصيّة الواحدة دون سواها، لأنّ المكان في التفكير النقدي المعاصر، أصبح الأساس في الكتابة الروائيّة، إذ لا توجد رواية مُغيّبة للمكان بل تستدعيه لضرورة فكرية وجمالية، منذ كتابات الإغريق في تأصيلهم للإلياذة والأوديسة. ومن هذا المنطلق، نجد أنّ أغلب القضايا النقدية الحديثة والمعاصرة متشابكة ومتعاضدة فيما بينها تعود للأصل في أغلب الأحيان".

/العمانية /طلال المعمري

أخبار ذات صلة ..