باريس، في 29 يوليو/ العمانية / يتضمّن كتاب "مقطوعات شعرية" ترجمةً لمختارات من نصوص الأديب الجزائري الراحل محمد ديب، ترجمها من الفرنسية إلى العربية كريم نايت أوسليمان.هدفت هذه الترجمة كما يوضح أوسليمان أن تقدم قراءةً أو إعادة قراءة محمد ديب، و"التماس طريق العودة" نحو الثقافة والهويّة اللتين تعرّضتا لمحاولات تدميرهما، وهذا "أحد أصعب التحديات التي تواجه بلدان ما بعد الاستعمار وأكثرها تعقيداً".ويضيف المترجم: "لقد تمَّ انتزاع الاستقلال على حساب الدم، لكن الوضع الحالي الذي تعيشه معظم البلدان المستعمَرة سابقاً يُظهر أن الاستقلال لا يمكن أن يكون غايةً في حدّ ذاته، بل هو رحلةٌ مستمرة في درب تحرير الإنسان".تؤكد المقطوعات المختارة في الكتاب فكرةَ المقاومة التي حضرت بقوة في نصوص محمد ديب، سواء بشكل مباشر أو بشكل رمزي؛ من مثل حديثه عن لعبة "الوالبيتشاك" الشعبيّة، التي انتشرت في الجزائر خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي، ويقال إن الإدارة الفرنسية للبلديات كانت قد منعت الأطفال الجزائريين من لعب كرة القدم في الملاعب إلى جانب أطفال المستعمِرين الأوروبيين، فتمّ اختراع هذه اللُّعبة رداً على ذلك. يقول ديب في قصيدة له:"فَلْنَذهبْ بالبيتشاكْ، تْشَاك، تْشَاكإلى حيثُ نلعبسأَجلُبُ لك الشَّعيرَ والقمحيا حجَرَ الرَّحى العظيميا أيَّتُها القيثارةُ - النَّحلة!".وتنحاز نصوص محمد ديب للقضايا الإنسانية الكبرى، فتتحدث عن الحرّية، والحرب، والحبّ، والتهجير الذي ذاق الشاعر مرارته، إذ يقول:"يجلسكأنَّه غريبٌواضعاً يديهعلى الطاولةبمجرّد النظر إليهندرِكُ أنَّه طالبُ لجوءوعذر".وتستمر هذه الصورة الدرامية المليئة بالرموز والدلالات بقول الكاتب:"يهشِّمُ الخبزالذي نضج فوق نارٍلم يقم بإعدادهابنفسهلملمَ الفُتاتفي النهايةليحملَهاللعصافير".وفي عدد من القصائد ينتهج محمد ديب أسلوباً حوارياً متأثراً بالسرد، ومنه قصيدته التي تتضمن حواراً بين فتى وفتاة، يكشف عن فهم عميق للوجود وفلسفته، ومنها:"تقول الفتاة: أنت لا تعرف ما أعرفقال: لاكان الفتى يفضِّل المشيويتهيّأُ كي يكون وسيماًلقد أرادت كلَّ شيء سوى أن تمشيتقول: إنَّه لشيءٌ جميلٌوالفتى من بعيد، يقول: مثلُ ماذا؟مثلُ الكثير من الأشياءيقول وهو أكثرُ بعداً: مثل ماذا بالضَّبط؟لن تعرف، تقول، ثمَّ تصرخيواصل الفتى السَّيرويقول: لن أعرف ذلك".هذا البعد الفلسفي مطروح في معظم المختارات المترجمة، في إشارة إلى السمة الأبرز فيما قدمه محمد ديب وهو يتأمل ما حوله محيلاً كل المفردات التي يلتقطها إلى إشارات ورموز عميقة:"لا روح تحيا هناتحسَّسَ وجهَهوقال: هذا أنالم يعد يعرفما الذي افتقدهُوما الذي ضاع".هذا البعد التأملي الوجودي يفسر اشتمال العديد من المقتطفات الشعرية على مفردات تؤنسن الطبيعة، وترسم المشاهد على مهل، وتبثّ فيها المعاني التي تدفع للقراءة والتأويل، والتمعن في صور فنية غير مألوفة:"في خميلة نهاريّةإقليمُ صُدْفَةٍاهتزازٌ خفيفٌ للأوراقأو نارٌ مشتَّتةٌ في الرّيحوالشُّعلة الأخرى التي تجمعُعُمراناً من الضَّبابوهي بعيدةٌ عن أمواجِ البحرلعلَّها تستقبلني يوماً ما".ولعل الارتباط بالأماكن، وما يشيع من أجواء الحنين والغربة في القصائد، قادم كما يوضح المترجم من أن عمل محمد ديب ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالمشهد الجزائري سواء من حيث جانبه التاريخي أو بلاغته الشّعرية. ويضيف كريم نايت أوسليمان: "لقد تطوَّر المؤلِّف وتطوَّر عملُه، وتمَّ له ذلك في فضاءاتٍ عدَّة، فضاءٍ جغرافيٍّ، وفضاءٍ بشريٍّ، وفضاءٍ للتَّعبير الأدبي، وفضاءٍ خاصٍّ باللُّغة الفرنسيَّة، أينَ بُنِيَ النَّصُّ ليمنح وجوداً لمؤلِّفٍ يقف في مواجهةٍ أمام تاريخ الجزائر المرعب، يحاورهُ ويسائلُهُ، على مرأى من أعين القُرَّاء"./العمانية /النشرة الثقافية /طلال المعمري