عمّان في 10 فبراير /العُمانية/تقدم التشكيلية رايا قسيسية المولودة عام 1991، أعمالاً فنية معاصرة، تستكشف من خلالها الحيوية التي يمكن استجلابها عبر دمج المواد معاً، أو منحها فرصة للتقارب والتحاور، محمّلةً ناتجَ هذا العمل رسالةً تبحث في أعقد القضايا المعاصرة التي تعصف بإنسان اليوم.
تبرز في سلاسل أعمال قسيسية لغة بصرية فريدة، تجمع بين مهارات الصناعة من جهة وقوة المواضيع من جهة أخرى، ولا غرو في ذلك، فالفنانة تمتلك خلفية في صناعة المنسوجات، وبخاصة تلك التي تتشكل من أنماط محددة أو مكررة، لهذا تتخذ الخطوط التي تلون لوحاتها من النمط عنصراً أساسياً في البناء، كما يبرز هذا العنصر في أعمالها الإنشائية، التي يقارب بعضها شكل الشِّباك ذات المثلثات والمعينات المفرغة، أو الخطوط الأفقية الناعمة التي تتقاطع مع تلك العامودية بطريقة مدروسة.
تتعامل قسيسية التي تعيش متنقلة بين عمّان ولندن، مع عملية التصنيع بوصفها أداة تمنح الروح للقطع وتمدها بالحياة والحيوية، وبخاصة تلك التي تنفِّذها بالمعدن كالفولاذ والنحاس، وهي تؤكد أنها مفتونة بالمعادن وبخاصة النحاس الموجود في تراب الأرض، وفي الكابلات التي تدير عالم الإنترنت.
إلى جانب المعدن، استخدمت الفنانة خيوط النسيج وإمكانيات التكنولوجيا، وهي في كل قطعة تشتغل عليها تقدم جزءاً من التراث الفلسطيني الذي يجب المحافظة عليه وإبرازه للعالم وفق لغة عصرية جمالية، وهذا ما يدفع الفنانة أحياناً للجوء إلى الأرشيف الفوتوغرافي لجدتها، مع ما يحمله ذلك الأرشيف من ذكريات وقصص شخصية وجماعية.
قسيسية التي تحمل درجة الماجستير في النحت من الكلية الملكية للفنون (2024)، ترسم وتلون وترتب وتنحت وتلحم القطع بعضها ببعض وتزيّن، مستخدمة الجسد كأداة تحث المشاهد على التخيل والإبداع، كما لو أنها تضعه أمام حوارات عميقة تدور حول موضوعات وجودية كبرى مثل الهوية والحرية والاستقلال.
حاولت الفنانة الاشتغال على لوحات طبيعية مزخرفة مستوحاة من التراث، فقدمت أعمالاً تعكس حالة الألم والأمل التي يعيشها الإنسان الفلسطيني منذ النكبة، ولأنها لم تتمكن من زيارة فلسطين بسبب الاحتلال، فقد استوحت هذه الأعمال من أحاديث جدتها وذكرياتها، لذا فقد استخدمت العديد من الكتابات التي وشمتها على الجسد.
كما كشفت أعمالها التي جاءت على هيئة ورود معدنية ملونة بالألوان الداكنة حالةَ الحزن التي عاشتها الفنانة بعد رحيل جدتها، إذ شعرت حينها أنها لم تفقد جدتها وحسب بل فقدت وطنها مرة أخرى.
في عدد من أعمالها، تركز الفنانة على الثنائيات، مثل صرامة الحدود وانعدامها، والسعادة والحزن، والحياة والموت، والامتلاء والفراغ.. وهو ما برز في منحوتاتها من وجوه وورود كلها بلون داكن وحواف حادة، كما لو أنها تشير إلى الاحتلال الذي يصبغ حتى أرقّ الموجودات بالسواد والظلمة. أما في أعمالها التي كانت عبارة عن سلسلة من الألواح المعدنية معروض عليها عدد من صور عائلتها خلال القرن الماضي، تؤكد الفنانة على تعلق الإنسان بأرضه ووطنه، وتمسكه بالأمل حتى وهو يراقب السنين تمر وتجرفه معها بعيدا عن الحلم بالعودة.
وفي مجال الأعمال التجريدية، قدمت رايا قسيسية مجموعة منها محملة بالرموز وبطاقة من المشاعر حققها التوازن والتداخل بين الكتل اللونية فوق سطح اللوحة، وبعضها جاء مفعماً بالأمل من خلال الألوان المبهجة والتشكيلات المستوحات من الطبيعة ومكوناتها.
تؤكد قسيسية في مجمل أعمالها، على أهمية ما يسمى "فن العملية" الحركة التي انطلقت في الولايات المتحدة وأوروبا في منتصف ستينيات القرن الماضي، والتي ترى أنه من الضروري إبراز الخطوات التي قام بها الفنان قبل أن ينتج عمله بصورته النهائية، وترى هذه الحركة الفنية أن العملية الإبداعية يمكن أن تكون قطعة فنية في حد ذاتها.
تبدو الفنانة قسيسية، مهتمة باستكشاف المواد المتناثرة حولنا في حياتنا اليومية؛ الإسمنت والصوف والألياف والشاش والكتان.. فقد صورت في عمل لها تمثالاً نصفياً لامرأة بالحجم الطبيعي غطت جذع التمثال بالإسمنت ولفّت أعلى الجسد بقطعة بلاستيكية، كأنما بذلك تشير إلى تفاعل الجسد مع تلك المواد اليومية، كما قدمت منحوتات معلّقة من الصوف المنسوج وكشفت أن هذه الأعمال الكبيرة هي جهد جماعي لمجموعة من النساء جلسن معاً وقمن بالحياكة بشكل جماعي، وهذا ما منح العمل طابع يمكن القول إنه "أنثوي".
/العمانية /النشرة الثقافية /طلال المعمري