مسقط في 23 يونيو /العُمانية/ تبرز السينما في إطارها العام كأداة ثقافية ذات أبعاد فكرية واقتصادية؛ لِما لها من قدرات استثنائية على التعبير عن هويات الشعوب الوطنية، مرورًا بترسيخ القيم الحضارية لها، وبناء جسور التوافق الإنساني، في ظل التحولات التي تشهدها الصناعات الإبداعية في العالم.
فعلى المستوى المحلي، يتعزز حضور السينما العُمانية من خلال محفزات ثقافية، بما فيها اللغة وتنوعها لتشمل اللهجات المحلية، كونها تشكِّل نسيجًا ثقافيًا تعبيريًا يمكن العمل عليه لإيجاد سرديات نوعية، مرورًا بالأساطير الشعبية والتاريخ المادي وغير المادي، والواقع البصري الذي تتميز به البيئة العُمانية وأنماط العيش، لتوفير مناخات درامية متعددة.
في هذا السياق، تبرز أهمية الاستفادة من المحفزات الثقافية المتنوعة لإنشاء صناعة سينمائية عُمانية حقيقية، ويتطلب ذلك الاستثمار في البنية الأساسية لتكون امتدادًا للبنية المعرفية، مما يمهّد الطريق لتنافس السينما العُمانية على المستوى العالمي.
في البداية، يتحدث محمد بن عبدالله العجمي، رئيس مجلس إدارة الجمعية العمانية للسينما، عن الثقافة كحافز يؤدي إلى صناعة سينمائية حقيقية،فيقول:"المحفزات الثقافية في سلطنة عُمان تمتلك طاقة سردية عميقة قادرة على نقل السينما من مجرد منتج فني إلى خطاب معرفي يعكس خصوصية المجتمع العُماني وتفرده؛ فسلطنة عُمان تتمتع بتنوع لغوي يشمل العربية ولهجات محلية متعددة، ما يشكل ثراءً لغويًا ينعكس على نبرة السرد وقربه من الناس."
ويضيف: "كما تشكِّل الأساطير والحكايات الشعبية أرضية خصبة لإنتاج سينما رمزية تلامس البُعد النفسي والروحي للمتلقي."
ويشير: "تتيح البيئة الجغرافية الممتدة من الصحاري إلى الجبال والبحار، فضاءات بصرية غير نمطية، تحفّز على إنتاج سينما تأملية ذات طابع بصري وشعري، كما أن أنماط العيش التقليدية - كالزراعة، والرعي، والبحر، والعمارة الطينية - تعكس فلسفة حياة يمكن ترجمتها إلى رموز سينمائية عميقة."
ويوضحأنه "عندما تُوظَّف هذه العناصر ضمن رؤية سردية واعية، يمكننا أن ننتقل بالسينما من التسلية إلى التفكير، ومن المتعة البصرية إلى المعنى الرمزي، لإيجاد خطاب سينمائي ينفذ إلى العالم من بوابة الخصوصية."
وفيما يتعلق بالاستثمار في البنية الأساسية كرافعة معرفية للسينما يقول العجمي: "إنه يُعد خطوة محورية نحو وضع بيئة سينمائية متكاملة تُسهم في تعزيز الهوية العُمانية فنيًا وثقافيًا، من خلال إنشاء مهرجانات سينمائية محلية ودولية، وتطوير منصات عرض متخصصة، بإمكانها إيجاد فضاءات لتبادل الخبرات وتعزيز الحضور العُماني على خارطة السينما العالمية؛ فالمهرجانات والمسابقات – حسب وصفه – ليست فقط أدوات للترويج، بل منصات تمكّن صناع الأفلام من التفاعل مع التجارب العالمية، والانفتاح على مدارس فكرية وجمالية متعددة."
كما تطرّق العجمي إلى السينما العُمانية والهُوية في سياق العولمة موضحًا أن "الوصول إلى العالمية لا يعني الذوبان، بل الحضور المؤثر من خلال التفرّد، فالسينما العُمانية قادرة على تقديم قضايا الإنسان العُماني حيث تحولات المجتمع، والعلاقة بالزمن والهوية وفق سياقات تتصل بالقيم، تنطلق من بيئة محلية صادقة، فالعالم بات يبحث عن "اللغة السينمائية الصادقة"، ولا شيء يحقق هذا الصدق أكثر من التمسك بالجذور".، مشيرًا إلى أنه "يجب الاستلهام من الحكاية العُمانية، والتراث واليوميات لإيجاد أعمال تحكي عن الإنسان الذي يسكن في كل بقعة من هذا العالم."
أما الفنان والمخرج أنور بن خميس الرزيقي، فيشير إلى ما يتعلق بالثقافة كمحفز يؤدي إلى صناعة سينمائية حقيقية، قائلًا: "أرى أن المحفزات الثقافية العُمانية - بما تملكه من ثراء في اللغات المتنوعة، وعمق في الأساطير والحكايات الشعبية، وتنوع فريد في البيئة الجغرافية من سواحل خلابة وجبال شامخة وصحارٍ واسعة، بالإضافة إلى أنماط العيش الأصيلة، تشكل كنوزًا دفينة لصناعة سينمائية متميزة. هذه العناصر ليست مجرد خلفيات بصرية أو حكايات عابرة، بل هي جوهر الهوية العُمانية وروحها."
ويضيف: "لتطوير السينما في سلطنة عُمان من مجرد فن سردي إلى خطاب مؤسس لرؤية عُمانية شمولية ذات تأثير رمزي، يجب العمل على استلهام القصص والأساطير المحلية من خلال تشجيع السينمائيين على الغوص في التراث الشفهي والأساطير العُمانية وتقديمها برؤى معاصرة تخاطب الوجدان الإنساني، مرورًا بإبراز التنوع اللغوي واللهجات المحلية، خاصة وأن اللغات يمكن أن تكون عنصرًا جاذبًا للأفلام، مع توفير ترجمة احترافية للوصول إلى العالمية."
ويتابع الرزيقي: "أضف إلى ذلك توظيف البيئة الجغرافية كشخصية بحد ذاتها، فالمناظر الطبيعية الخلابة في سلطنة عُمان ليست مجرد مواقع تصوير، بل يمكن أن تكون عنصرًا في بناء السرد الفيلمي، تعبِّر عن مشاعر الشخصيات أو دلالات رمزية عميقة، وفي شأن إظهار أنماط العيش والقيم العُمانية، يمكن تقديم صور حقيقية ومعاصرة لأنماط العيش في سلطنة عُمان، مع التركيز على القيم الأصيلة كالكرم والتسامح والتعاون."
وأضاف: "من خلال هذا الاستثمار الثقافي العميق، يمكن للسينما العُمانية أن تتجاوز مجرد الاستهلاك الفني لتصبح خطابًا رمزيًا مؤثرًا يعكس رؤية عُمان للعالم ومكانتها فيه."
وفيما يتعلق بالاستثمار في البنية الأساسية كي تصبح امتدادًا للبنية المعرفية، يقول الرزيقي: "أرى أن يكون ذلك من خلال تطوير المهرجانات والمسابقات المحلية بحيث ترتقي هذه الفعاليات لتصبح منصات حقيقية لتبادل الخبرات، وإيجاد حلقات عمل متخصصة، وعروض لأفلام ذات جودة عالية من داخل سلطنة عُمان وخارجها. والتركيز على تطوير المواهب الشابة، مع تعزيز الحضور في المهرجانات والمنصات العالمية من خلال دعم مشاركة الأفلام العُمانية وصناع الأفلام العُمانيين في المهرجانات والأسواق السينمائية الدولية المرموقة، مع الدفع بالتعليم والتدريب السينمائي، والاستثمار في المؤسسات التعليمية والبرامج التدريبية المتخصصة في صناعة السينما لبناء جيل من السينمائيين المحترفين القادرين على إنتاج أعمال ذات جودة عالمية. وتسهيل الإنتاج المشترك، وتشجيع ودعم الإنتاج المشترك مع شركات إنتاج دولية يمكن أن يُسهم في نقل الخبرات، وفتح أسواق جديدة، ورفع مستوى الإنتاج السينمائي العُماني."
ولكي تكون السينما العُمانية في مصاف العالمية، قال الرزيقي: "يجب أن نعمل على طرح قضايا الإنسان في سلطنة عُمان ضمن سياقها الدولي، دون فقدان روحها وخصوصيتها، من خلال التركيز على القصص الإنسانية ذات العمق، حيث تتناول الأفلام العُمانية قضايا إنسانية عالمية مثل الحب، والفقد، والعدالة، والصراع، والتسامح، وبمنظور عُماني فريد، ما يضمن أن تكون القصص مؤثرة وقابلة للتواصل مع جمهور عالمي مع الحفاظ على الهوية المحلية. والاهتمام بالجودة الفنية والتقنية، ومن خلالها يجب أن ترتقي الأفلام العُمانية من حيث الإخراج، والتصوير، والسيناريو، والموسيقى التصويرية، والمونتاج لتنافس على المستوى العالمي، وبناء علامات تجارية مميزة من خلال تطوير الهوية البصرية والسردية تجعلها قابلة للتعرف عليها وتميزها عن غيرها. أضف إلى ذلك التسويق والترويج الفعال من خلال الاستثمار في استراتيجيات تسويقية وترويجية فعالة للأفلام العُمانية على المستوى الدولي لضمان وصولها إلى الجمهور المستهدف."
أما المخرجة السينمائية مزنة المسافر، فتحاول أن تختزل رؤيتها من خلال حديثها الذي تشير فيه: "لقد تجاوزنا كلمة هوية بصرية، لم يعد هناك هوية في زحمة هويات كثيرة في العالم، نحن الآن بحاجة إلى أيديولوجيا تتم صناعتها وصياغتها بشكل إبداعي وعالٍ حتى نتمكن من الولوج في أفق جديد يعني بنا، وإيجاد أيديولوجيا تتعلق بمفهوم الإنسان الذي يفكر والذي يعمل في سلطنة عُمان."
وتضيف: "إن هذا الإنسان المتقدم والمتطور في حركته وسكونه، إنسانٌ يتناغم مع الطبيعة المُهداة إليه ويندمج مع ما حوله، وأولى أولوياته عيش الحياة بطولها وعرضها بشكل باعث للدهشة، حيث إنه إنسان مختلف في تراتِبيّته الأخلاقية وناضج في اختياراته في الحياة، وهنا يأتي الترويج لإنسانيته، شيء مهم أن تقوم به الصورة وتتحد معها الكلمة لتعطي بُعدًا آخر لما هو الآن. وكذلك، يرجع هذا المفهوم إلى قدرة المؤسسات المعنية على اقتناص ملكات ومكنونات هذا الإنسان المتطور ليكون له مكان في دولاب الإنتاج اليومي في سلطنة عُمان، وتبرز كذلك تلك المؤسسات بشكل عصري ومتمدن، مركزة على ما يمكن فعله وما يمكن تطبيقه."
فيما يقول صانع الأفلام قيصر بن سالم الهنائي: "إن سلطنة عُمان تمتلك العديد من المحفزات الثقافية التي يمكن أن تجعل من السينما لها تأثير رمزي، ومن بينها تنوع اللغات أو اللهجات المختلفة في مسندم وظفار – على سبيل المثال لا الحصر – والتي من خلالها يمكن أن يوجد تنوع ثقافي واجتماعي يلامس الإنسان. كما أن سلطنة عُمان مليئة بالحكايات الأسطورية، والتي تمثل مادة غنية للكثير من القصص السينمائية التي تجذب الجمهور. أضف إلى ذلك التنوع الجغرافي الذي تتمتع به بلادنا من جبال وسواحل وشواطئ، والتي تمثل استوديو مفتوحًا لمواقع تصوير أفلام سينمائية."
ويضيف: "إن نمط العيش والتقاليد اليومية التي يعيشها العُمانيون، والتي تمثِّل البساطة والعلاقات الاجتماعية، وعلاقتهم بالأرض، ومحافظتهم على الموروث والعادات والتقاليد، فجميعها يمكن أن تُوجِد سينما واقعية من الممكن أن تعيد صياغتها برؤية مختلفة وغير مستهلكة، وتصبح ممارسة ثقافية عامة. وعندما يتم تفعيل هذه المحفزات ضمن رؤية فنية سينمائية، يمكن للسينما في سلطنة عُمان أن تتحول من محتوى محلي إلى خطاب عام يلامس الإنسان في كل مكان، ويحمل دلالات تتجاوز الحدود الجغرافية، فتصبح السينما ليست فقط للترفيه، بل ممارسة أيضًا تبني الهوية العُمانية لتكون جسرًا حضاريًا وثقافيًا."
ويوضح: "في سلطنة عُمان نملك بنية أساسية في المجال السينمائي، مثل المهرجانات السينمائية التي تنظمها الجمعية العُمانية للسينما في مختلف المحافظات، بالإضافة إلى المسابقات والفعاليات التي تنظمها الجهات الأخرى، والتي تُعتبر نافذة لتبادل الخبرات، والاطلاع على تجارب الآخرين، وعرض التجارب العُمانية لتشكّل معرفة وثقافة سينمائية تفتح للعالم نافذة عُمان. كما أنّ هذه المهرجانات تشتمل على حلقات عمل وندوات بحضور النقاد وصناع الأفلام، لذلك من الممكن أن تُوجد شراكات عالمية ويتم تصدير الأفلام العُمانية إلى مختلف أنحاء العالم، لذا من المهم استثمار البنية الأساسية بشكل صحيح لصنع سينما تعكس صورتنا وهويتنا العُمانية وتنقل صوتها إلى العالم كله."
وفي سبيل رقيّ السينما العُمانية نحو العالمية، يقول الهنائي: "يجب أن نشير هنا إلى أنه من المهم إيجاد عملية التوازن بين طرح قضايا إنسانية عالمية، وفي الوقت نفسه المحافظة على الخصوصية العُمانية. فالأفلام العُمانية حينما تنقل قضايا الإنسان وواقعه المعاش، يجب في السياق ذاته أن تمس كل إنسان في هذا العالم، كونها تحمل مشاعر وأفكارًا مشتركة. ولكي تنجح السينما العُمانية في ذلك، فهي تحتاج إلى أن تستخدم أدوات فنية حديثة وتروي الحكايات بلغة بصرية جذابة، وفي حالة التعاون المشترك مع جهات دولية يجب أن تبقى الرؤية والصوت عُمانيين، وبهذا تحافظ على خصوصيتها، وتصل في الوقت نفسه إلى العالم."
/العُمانية/النشرة الثقافية/خميس الصلتي